هناك اعتقاد سائد ورائج وخاطئ بأن مفهوم «حرب المعلومات» Information warfare هو مفهوم يُستخدم للدلالة على حرب استخباراتية بين الدول، لكن هذه الحرب تُمارس بعيداً عن الميدان العسكري والاستخباراتي وببراعة فائقة في معركة تغيب الوعي وعلى كافة أصعدة النشاط البشري دون استثناء تقريباً.
سياسياً، واقتصادياً، وثقافياً، ومعرفياً، ودينياً أيضاً.
فمن المؤكد، ومما لا شك فيه أن أسفل قناة السويس المصرية كنزاً فرعوني دفيناً يحتوي على 1400 قطعة أثرية، من بينها هرم ذهبي وزنه 1200 طناً، ومسلة فضية طولها 3.5 متر.
وهذه معلومة يعرفها الجميع باستثناء أولئك المغيبين والجهلاء.
هل تحب أن تكون من المغيبين والجهلاء؟
بالطبع لا أحد يحب ذلك، ومن ثم سوف تصدق هذه المعلومة الكاذبة، أو على الأقل سوف تمر عليك مرور الكرام، فقط لأني مارست بعض أساليب حرب المعلومات عند طرحها لتبدو وكأنها معلومة موثّقة بأرقام دقيقة، على الرغم من كونها مجرد كلام فارغ.
أنت استقبلت هذه المعلومة الجديدة عليك بريبة، لكني تلاعبت بعقلك ومشاعرك بمجرد كلمات لها مدلول يداعب عقلك الباطن من أمثال: «من المؤكد»، و«مما لا شك فيه»، إلى جانب استخدام أرقام تبدو من الوهلة الأولى وكأنها جاءت نتيجة عملية بحث، فظهر الكلام كما لو كان معلومة مبنية على معرفة حقيقية.
لذا قبل أن تخدعك جملة كهذه، لا بد أن تسأل: من الذي أكد؟ ولماذا لا شك فيه؟ ومن أين جئتُ بهذه الأرقام؟ وهل هي معلومة يمكن إثباتها بالملاحظة المباشرة أو التجربة العلمية؟ أم هي مجرد رأي؟
غير أني لم أترك لك فرصة لطرح الأسئلة، وأردفت كلامي بإهانة تجعلك لا تفكر أو تسأل كي لا تضع نفسك في خانة المغيبين والجهلاء.
تلك هي الصورة المجردة لحرب المعلومات بعيداً عن المجال العسكري والاستخباراتي، هي باختصار التلاعب بالألفاظ لاستهداف العقل الباطن عن طريق مصطلحات لها قدرة على ترسيخ أية أفكار وكأنها مبنية على معلومات مؤكدة بأرقام وحسابات وإحصاءات دقيقة للغاية، وباستخدام مفردات تترك في النفس أثراً يخدم الغرض، بينما هي في الحقيقة أكاذيب تهدف إلى زرع قناعة معينة في عقل المتلقي، وتأكيدها عن طريق التكرار، ثم إفساح المجال لها كي تنمو وتترعرع من تلقاء نفسها، وتُشكل توجهات الفرد مستقبلاً.
وسائل الإعلام تستخدم هذه الأساليب دائماً للتلاعب بالعقول، خاصة لو كانت وسائل قوية ولها نفوذ كبير، وجيش ضخم من الببغاوات الذين يكررون الهُراء نفسه مراراً وتكراراً، وبتقنيات أحياناً مبتكرة كالنفي والصدمة.
فحينما تجد أن وسائل الإعلام تردد جملة منفية، فقد يعني هذا مداعبة لعقلك الباطن كي يفكر في العكس، أو اللعب على أوتار المشاعر والأحاسيس وقلبها لتعمل ضدنا.
أشهر الأمثلة على ذلك، رواية "آيات شيطانية"، المُسيئة لدين الإسلام ورسوله، والتي ثارت عليها ثائرة العالم الإسلامي، وطالبوا بالقصاص من مؤلفها الكاتب البريطاني من أصل هندي "سلمان رشدي"، لدرجة أن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية "آية الله الخميني" أصدر في عام 1989 فتوى بإهدار دم المؤلف، وأعلن عن رصد مكافأة قدرها ثلاثة ملايين دولار للقاتل.
وبذلك، قام المسلمون أنفسهم دون قصد بحملة دعائية ضخمة لصالح الرواية، ومؤلفها.
أيضاً رسام الكاريكاتير الذي قام بنشر الصور المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم مستخدماً أسلوب الصدمة في حرب معلومات جعلت الكثير من المسلمين أنفسهم يقومون بإعادة نشر هذه الصور بغرض «حسبنة الله ونعم الوكيل» في هذا الكافر، دون دراية بأنهم أصبحوا أبواق دعاية ساهمت في انتشار هذه الحملة المـــُغرضة.
وكي لا تختلط الأمور، فإن الدفاع عن المعتقد أمر واجب بالسُبل المتاحة، لكن العدو يُراهن أحياناً على سلامة نية الخصم الذي يهب للدفاع متسرعاً فيمسك السيف من ناحية النصل.
ولا شك في أن الإعلام أداة قوية تؤثر في تشكيل وجهات نظر الجماهير، وصناعة التوجهات، وهو ما يؤدي إلى تداول معلومات زائفة، وتشكيل الرأي العام عن طريق استخدام تقنيات التلاعب النفسي لتوجيه الجمهور نحو آراء بعينها، دون أن يغفل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في إثارة الجدل عن طريق استخدام العناوين الصادمة لجذب الانتباه بعيداً عن الحقيقة، وكذا التلاعب بالصور ومقاطع الفيديو لخلق تأثيرات مزيفة، أو لتمرير رسالة معينة إلى العقل الباطن.
بيد أن هذه المهمة التي يحملها الإعلام المضلل على عاتقه، تفقد فعاليتها حال توجيه هذا التلاعب نحو عقول واعية، لأن هذه العقول قادرة على التحليل المنطقي، وربط الأحداث لتكوين صورة واضحة وحقيقية.
لذلك، لا يُسمح للشعوب بالحصول على المعرفة، أو الوعي بالمفاهيم الدقيقة التي تؤهلهم لإحداث انقلابات عنيفة.
هذا ما أوضحه الطبيب والمفكر الفرنسي جوستاف لوبون، في كتابه الشهير "سيكولوجيا الجماهير"، فقال ما مفاده: أن التحولات التي تؤدي إلى تغيرات كبرى على مستوى الأنظمة، لا تستند إلى الحِراك الذي تتناقله كتب التاريخ.
فاحتلال دولة لأخرى، أو الانقلابات السياسية، أو الثورات الشعبية، هي فقط الآثار المرئية، أما الأسباب الحقيقية فهي تغيرات غير مرئية تحدث تحولات في أفكار الجماهير وعواطفها وتوجهاتها، فالجماهير هي القوة الفاعلة الحقيقية في أي مجتمع، ومن يستطيع التحكم في هذه القوة، فبلا شك يكون قادراً على توجيهها كيفما يشاء بما يخدم مصالحه، ويحقق أهدافه.
ولأن الإنسان عرضة في أية لحظة لعدوى المشاعر والأفكار، فإن الانفعالات التحريضية، تجعله مستعداً للإيمان بتوجه معين، لدرجة الموت في سبيل الدفاع عنه، وبطبيعة الحال تنتقل هذه العدوى بين أفراد المجتمع المتأهب دائماً لتقبل ما يُملى عليه من أفكار يتبناها، ويُدافع عنها، ويتعصب لأجلها، فينشأ نوع من الهستيريا الجماعية كظاهرة تجمع الأفراد، وتؤجج العاطفة، والعنف غير المُبرر، وغير العقلاني.
لذا، فليس مستغرباً أن نجد مجتمعاً يؤيد دكتاتوراً، أو يُنادي في مظاهرة حاشدة بسقوط الديمقراطية، هذا لأن الإعلام استطاع التلاعب بعقله، وتوجيهه لإحداث تحولات اجتماعية على المستوى الثقافي والسياسي.
وبالعودة إلى حرب المعلومات وأسلوب الصدمة المُعتمد بشكل كبير في هذه الحرب لاستثارة مشاعر الغضب العام، فإننا نجد إعلامياً يقوم بالتشكيك في ثوابت الدين، والطعن في كتب التراث تمهيداً للخطوة التالية وهي التشكيك في صحة القرآن نفسه.
أو نجد فتاة تتحدى قيم المجتمع، وتنشر صورها عارية كي يقوم البعض باتهامها بالفجور، ومن ثَم تهديدها ونشر هذه الصور على نطاق واسع مع أحاديث الإعلامي التي تقطر جهلاً؛ وبالتالي ينجح مسعى الفتاة في الحصول على لجوء سياسي بدولة أوروبية، أو مسعى الإعلامي في الحصول على الشهرة التي تؤهله لخوض معركة أكبر ضد عقول مُغيبة تعمل ضد نفسها، فيما كان الأجدى لها إماتة الباطل بهجره، وإحياء الحق بذكره.
ألم يكن أيام الرسول صلى الله عليه وسلم شعراء لم يؤمنوا به، وكتبوا فيه ذماً وقدحاً؟
بالطبع كان هناك كثيرون، فلماذا لم تصل إلينا هذه الأشعار؟
هل لأن الإسلام انتصر وساد فأسقطها من ذاكرة الشعوب، وكتب التاريخ كما شاء؟
رغم أن هذا سبب يتضمن طعناً خفياً، لكن، ربما يكون سبباً وجيهاً، إلا أن السبب الحقيقي، أن المسلمين الأوائل لم يكونوا مغيبي العقول، وفطنوا إلى أن تجاهل الباطل يميته.
وبما أن النسيان صفة أصيلة في عقول البشر، فإن عملية تزييف الوعي، والتلاعب بالعقول تستفيد من هذه الصفة أيما إفادة، لأن الناس تنسى عشرات النجاحات أمام سقطة واحدة، أو حتى جملة يتم تأويلها على غير وجهتها الصحيحة، ويغتنمها الخصم ويُضخم منها ويستخدمها في حربه المعلوماتية ضد مصدر ثقة كي يجعل منه غير جدير بهذه الثقة، وبذلك يمارس عملية تجريف للحقيقة وحامليها لصالح جيشه من الكاذبين، ويضيع مرجع الحق وسط الأباطيل.
فعلى سبيل المثال، يُنسب إلى المُفكر الإسلامي "سيد قطب" رحمه الله أنه قال: "لا بد للأمة الإسلامية من ميلاد، ولا بد للميلاد من مخاض، ولا بد للمخاض من ألم"
لكن، ولأن التاريخ يكتبه المنتصر، فقد تم تأويل قوله، وإعادة رسم صورة الرجل في أذهان العامة الذين لم يهتموا بالبحث عنه، وسمحوا للآخرين بالتفكير واتخاذ القرار نيابة عنهم، وأصبح هذا الرجل الرقيق، صاحب الفكر المستنير، هو الباعث الأول للإرهاب، والراعي الرسمي للجماعات الإرهابية، والداعي إلى العنف والتطرف، وصار مكان مؤلفاته التي قلما يجود الزمان بمثلها؛ رف النسيان.
هكذا يُغيَّب العقل، ويُسلب الوعي، لأننا نغفل أن كل بشر يخطئ ويصيب، وكلٌ يؤخذ منه ويُرد عليه، وهكذا يضيع المرجع الحقيقي، ويحل محله الجهلاء والببغاوات والأفكار التي تجعل منا أضحوكة؛ كتلك الفتاة التي مسخها الله حيواناً حين داست بقدمها على المصحف الشريف، أو تلك البقرة التي تحدثت ونطقت بالشهادة، أو لفظ الجلالة المكتوب على بيضة، أو صنعته شجرة، أو صورته الطائرات مكتوباً بأمواج تسونامي.
تعالى الله فهو أكبر من كل ذلك، ولا يحتاج إلى التدليل على وجوده بمثل هذه الخزعبلات، وخصمك يعرفه حق المعرفة، لكنه يتعمد أخذ القضية إلى مضمار الخرافة في حرب المعلومات كي تبتعد عن جوهرها الحقيقي، ويصنع لنفسه آلاف الأبواب الخلفية التي تُمكنه من التسلل نحو عقلك ليتلاعب به، ويُخفي عن عينيك الشمس بأساليب متجددة دائماً، وحرب نفسية طويلة الأمد لا يكل فيها ولا يمل، بينما يبقى مصدر خوفه الوحيد هو (المعرفة)؛ لذا لا تظن بأنه سوف يسمح لك بالحصول عليها. إنه يضللك بعملية تعليم، وشهادات ليست أكثر من أوراق مختومة تجعل الإنسان مُستعبداً كالحمار يحمل أسفاراً دون معرفة حقيقية.
لا تظن بأنه سوف يُعطيك السلاح كي تحاربه وتتفوق عليه؛ فالعقل، والتفكير الحر هما عدوه الأول، وهذه قضية واضحة وضوح الشمس، لكننا لا نراها لأنهم أخفوا عنا الشمس ذاتها ونورها كي لا نرى، وكي تزداد الفجوة المجتمعية بين العقول الواعية وأقرانهم النائمين، ويتماهى الخيال مع الحقيقة لدرجة يصعب فيها الفصل بينهما.
هنا، يكثر المشعوذون، وقارئو الفنجان، والمتنبئون بالمستقبل، وكل من بإمكانهم أخذ العقول في رحلة تغييب، فينشغل الناس بعلم الأبراج، وعلوم الطاقة وما وراء الطبيعة، وكل ما من شأنه فصم الإنسان عن الحقيقة، فتختلط الأوراق، ويصدق الكاذب، ويُكذب الصادق، وتصنع الجماهير أبطالاً من ورق، وزعماء يقودونهم إلى التهلكة.
ففي ألمانيا، إبان الحرب العالمية الثانية، كان «هتلر» يزج بثمانين مليون ألماني نحو المجاعة والخراب بينما يهتفون له: «يحيا هتلر»
يومها قال وزير الدعاية النازية الشهير «جوزيف جوبلز» جملة لخص فيها المسألة برمتها:
«كلما سمعت كلمة ثقافة؛ تحسست مسدسي»
هل ما زلت تحاول فهم ما أرمي إليه؟
هل ما زلت تتساءل ماذا يريد هذا الرجل بكل هذه الثرثرة؟
لا تتعجل، فما زال النفق كله أمامنا، نحن حتى لم نفتح الباب بعد.