بنهاية الحربِ العالميةِ الأولى عام 1918، كانَ العالمُ على موعدٍ معَ تحولاتٍ جيوسياسيةٍ كبيرةٍ، كانَ منْ أهمِ نتائجَ هذهِ الحربِ انهيارَ الدولةِ العثمانيةِ -آخرٌ خلافةٍ إسلاميةٍ- وتفتتها إلى دويلاتٍ صغيرةٍ تقاسمتْ السيادةُ عليها الدولُ المنتصرةُ في الحربِ على وفقِ اتفاقيةِ سيكسْ بيكو.
الجذور
كانتْ لبنانُ منْ نصيبِ فرنسا، ووضعتْ تحتَ الوصايةِ الفرنسيةِ عامٌ ألفٍ وتسعمائةٍ وعشرونَ، وبعدُ ثلاثةِ وعشرينَ عاما وبالتحديدِ عامُ ألفٍ وتسعمائةٍ وثلاثةِ وأربعونَ حصلتْ لبنانَ على الاستقلالِ بعد انتفاضةٍ شعبيةٍ توحدتْ فيها كلُ الطوائفِ الدينيةِ والاتجاهاتِ السياسيةِ، وانتخبَ "بشارة الخوري" أولَ رئيسٍ للبنان المستقلةِ، فوضعُ معَ رئيسِ الحكومةِ وقتها " رياضْ الصلحْ " ما عرفَ ب " الميثاقُ الوطنيُ "، وهوَ دستورٌ شفهيٌ راعوا فيهِ التنوعُ الطائفيُ الكبيرُ في لبنانَ؛ مسلمونَ بطوائفهمْ: سنةٌ وشيعةٌ ودروزٌ وعلويونَ، مسيحيينَ بطوائفهمْ: الموارنةُ، والرومُ والأرمنُ والأقباطُ الأرثوذوكسُ والكاثوليكُ والكلدانُ اللاتين والآشوريينَ. . وغيرها منْ الطوائفِ، وأيضا اليهودُ. ثماني عشرُ طائفةً دينيةً معترفٍ بها في الدولةِ، وثلاثةُ أديانٍ.
ونصَ الميثاقُ الوطنيُ على أنْ يكونَ رئيسُ الجمهوريةِ منْ المسيحيينَ الموارنةِ، ورئيسَ مجلسِ الوزراءِ منْ المسلمينَ السنةِ، أما رئيسُ مجلسِ النوابِ فيكون منْ المسلمينَ الشيعةِ. هذا التنوعِ الديموغرافيِ، والدينيَ، والعقائديَ، والطائفيَ؛ نسيج صعبٍ التجانسِ سيما لوْ أضيفَ إليهِ الاختلافاتُ في التوجهاتِ السياسيةِ؛ فتتحولُ أرضُ لبنانَ إلى كرةٍ كبيرةٍ منْ الأسلاكِ المتشابكةِ، أوْ متاهةٍ منْ العداءاتِ والتحالفاتِ والتنوعِ.
الميثاق الوطني
ورغمُ أنَ الميثاقَ الوطنيَ كانَ اتفاقٌ شفهيٌ غيرُ مدونٍ، إلا أنهُ حافظَ على وحدةِ واستقلالِ لبنانَ، فالمسلمينَ كانَ لهمْ توجهٌ للانضمامِ إلى سوريا، والمسيحيينَ كانوا يطالبونَ بالتدخلِ الأجنبيِ، فجاءَ الميثاقُ الوطنيُ كيْ يوحدهمْ ويرضي جميعُ الأطرافِ. لكنْ في عامِ ألفٍ وتسعمائةٍ واثنانِ وخمسونَ ثارَ الشعبُ اللبنانيُ ضدَ الرئيسِ الخوري، واتهموهُ بالفسادِ، وأجبرَ على الاستقالةِ، وانتخبَ " كميلْ شمعونْ " خلفا لهُ. كانَ هذا الزمنِ زمنَ تحولاتٍ سياسيةٍ كبيرةٍ على مستوى العالمِ؛ الحربِ الباردةِ محتدمةً بينَ المعسكرِ الشرقيِ والمعسكرِ الغربيِ، الضباطُ الأحرارُ في مصرَ ينقلبونَ على الملكْ فاروقْ الأولْ ويتحولُ النظامُ السياسيُ منْ الملكيةِ إلى الجمهوريةِ كيْ تظهرَ فكرةِ القوميةِ العربيةِ من جديد، والتي كانَ لها مؤيدينَ ومعارضينَ. إلى جانبِ أنها كانتْ فترةٌ توجهَ للتحالفاتِ؛ فالولاياتَ المتحدةِ والدولِ الرأسماليةِ تحاولُ استقطابَ أكبرِ عددٍ منْ الدولِ تحتَ رايتها، وفي المقابلِ الاتحادِ السوفيتيِ والدولِ الشيوعيةِ تحاولُ تصديرَ المدِ الشيوعيِ وضمَ الدولَ تحتَ العباءةِ الاشتراكيةِ. ونتيجةً لهذهِ التوجهاتِ، وبرعايةٍ أمريكيةٍ تأسسَ حلفُ بغدادَ عامٌ ألفٍ وتسعمائةٍ وخمسةِ وخمسينَ وضمَ إيران وتركيا وباكستان والعراقَ، وهوَ الحلفُ الذي عارضتهُ مصرُ، إذْ رفضتْ قيامَ أيِ تحالفِ خارجَ إطارِ جامعةِ الدولِ العربيةِ، لكنْ في المقابلِ تأسسَ حلفُ الدفاعِ العربيِ بينَ مصرَ وسوريا والسعوديةِ. أما لبنانُ فوقفتْ على الحيادِ ولمْ تنضمْ رسميا لأيٍ منْ الحلفينِ، لكنَ الرئيسَ شمعونْ كانَ لهُ ميلٌ واضحٌ لحلفِ بغدادَ، وتوجهاتُ ناحيةِ المعسكرِ الأمريكيِ لدرجةِ أنهُ بعدَ ثلاثِ سنواتٍ وتحديدا عامُ ألفٍ وتسعمائةٍ وثمانيةٍ وخمسونَ، قبلُ بمبدأِ أيزنهاورْ والذي نصَ على أنهُ بمقدورِ أيِ بلدِ طلبِ المساعدةِ الأمريكيةِ اقتصاديا أوْ عسكريا إذا ما تعرضتْ للتهديدِ منْ دولةٍ أخرى، وهوَ ما اعتبرهُ اللبنانيونَ فتحَ البابَ للتدخلِ الأجنبيِ، فثاروا ضدَ الرئيسِ. وما زادَ الطينَ بلةَ أنهُ في الانتخاباتِ الرئاسيةِ بنفسِ العامِ فازَ الرئيسُ شمعونْ بالرئاسةِ لفترةِ ولايةِ ثانيةٍ، وخسرتْ قوى المعارضةِ، فزادتْ الاحتجاجاتُ متهمةً الحكومةِ بالتزويرِ، وتفجرَ الوضعِ أكترِ بعدُ اغتيالِ نسيبْ آلمتني وهوَ صحفيٌ لبنانيٌ معارضٌ، وأخذتْ المعركةُ بينَ الرئيسِ شمعونْ منْ ناحيةِ وقوى المعارضةِ منْ ناحيةٍ أخرى منحنى خطرٍ، وبدأتْ بوادرُ أزمةٌ تلوحُ في الأفقِ.
أزمة 1958
قبلُ عامينِ وفي يوليو عامَ ألفٍ وتسعمائةٍ وستةِ وخمسينَ رفضَ الرئيسِ شمعونْ قطعُ العلاقاتِ الدوليةِ معَ الدولِ التي هاجمتْ مصرُ خلالَ العدوانِ الثلاثيِ، وزادَ الأمرُ توترا معَ مصرَ إعلانَ شمعونْ تقربهُ منْ حلفِ بغدادَ، الأمرُ الذي رآهُ الرئيسُ المصريُ جمالْ عبدِ الناصرْ تهديدا للقوميةِ العربيةِ، وعندما قامتْ الوحدةُ بينَ مصرَ وسوريا تحتَ اسمِ الجمهوريةِ العربيةِ المتحدةِ، طالبَ اللبنانيونَ المسلمونَ الانضمامَ إلى هذهِ الوحدةِ، بينما أرادَ المسيحيونَ التحالفَ معَ دولِ الغربِ، ووقعتْ اضطراباتٌ مسلحةٌ بينَ الطرفينِ، وتأزمتْ الأوضاعُ أكثرَ عندما نجحَ تنظيمُ الضباطِ الوطنيينَ العراقيَ في الانقلابِ على الملكْ فيصلْ الثاني، وتولى الفريقُ الركنُ نجيبْ الربيعي رئاسةَ الجمهوريةِ العراقيةِ. وطبقا لمبدأِ أيزنهاورْ؛ طلبُ الرئيسِ شمعونْ منْ الدولِ الغربيةِ التدخلَ في لبنانَ لفرضِ الأمنِ خوفا منْ تكررِ السيناريو العراقيِ، ونزلتْ قواتُ المارينز الأمريكيةِ على الشواطئِ اللبنانيةِ بهدفِ حمايةِ حكومةِ كميلْ شمعونْ المواليةَ للغربِ. فخيمَ شبحُ الحربِ الأهليةِ في الأجواءِ، وظهرتْ بوادرُ كارثةٌ خوفا منْ انقسامِ الجيشِ اللبنانيِ على نفسهِ، لكنَ حكمةَ قائدِ الجيشِ وقتها اللواءَ فؤادْ شهابْ خلقتْ توازنا أدى إلى نزعِ فتيلِ الأزمةِ، والخلاصُ مؤقتا منْ ذلكَ الخطرِ الذي كانَ محدقا بلبنان. رفضُ اللواءِ شهابْ انحيازَ الجيشِ لطرفٍ ضدَ آخرَ، وفرضَ الأمنِ لحمايةِ الشرعيةِ والمرافقِ العامةِ، وفي الوقتِ ذاتهِ حافظَ على قواتِ المعارضةِ وسلامتها، فخمدتْ النارُ التي أوشكتْ أنْ تحرقَ الأخضرَ واليابسَ، لكنها ظلتْ مشتعلةً تحتَ الرمادِ.
العهد الشهابي
بعدٌ أزمةِ عامِ ألفٍ وتسعمائةٍ وثمانيةٍ وخمسونَ، انقسمَ لبنانُ سياسيا إلى فريقينِ، الفريقُ الأولُ المؤيدُ للغربِ بقيادةِ الرئيسِ شمعونْ والمسيحيينَ، والفريقُ الآخرُ المؤيدُ للوحدةِ العربيةِ وضمَ الأكثريةَ منْ القادةِ والسياسيينَ المسلمينَ الذينَ نظموا حركةُ احتجاجٍ قويةٍ تعارضُ تجديدَ فترةِ الرئاسةِ للرئيسِ شمعونْ. وبدأَ الانقسامُ يتوسعُ بينَ معارضةٍ أخذتْ تتسلحُ منْ ناحيةٍ، ومؤيدينَ للرئيسِ مثلٍ حزبِ الكتائبِ اللبنانيةِ القويِ والمسلحِ أيضا منْ ناحيةٍ أخرى. ويبدو أنَ هذهِ الأزمةِ كانتْ القطرةُ التي أفاضتْ الكأسُ، فأصبحَ مقعدُ الحكمِ في حاجةٍ لرئيسٍ جديدٍ، وبالفعلِ انتخبَ اللبنانيونَ اللواءَ فؤادْ شهابْ رئيسا للجمهوريةِ خلفا للرئيسِ شمعونْ، لكنَ حزبَ الكتائبِ اللبنانيةِ والموالي للرئيسِ أشعلَ أحداثَ عنفٍ في البلادِ، إلا أنها انتهتْ سريعا بتولي رشيدْ كرامي رئاسةَ الوزراءِ، وانتخبَ مجلسُ نوابٍ وطنيٍ أعادَ رموزَ المعارضةِ للحياةِ السياسيةِ. لكنْ وبعدَ عامينِ فقطْ وفي مفاجأةً منهُ؛ قدمَ الرئيسُ شهابْ استقالتهِ، مطالبا بإعفائهِ منْ مهامِ الرئاسةِ، وقالَ بأنهُ أتمَ واجبهُ تجاهَ بلادهِ حينَ واجهتْ وضعا طارئا، وقدْ حانَ الوقتُ لإعادةِ تسليمِ أمانةِ الرئاسةِ إلى السياسيينَ. إلا أنهُ تراجعَ عنْ الاستقالةِ بضغطٍ جماهيريٍ، وبدأَ نهضةً شاملةً في لبنانَ، وزادتْ شعبيتهُ أكثرَ حتى وصفَ بعضُ المحللينَ " العهدِ الشهابي " بأنهُ أفضلُ أيامٍ مرتْ على لبنانَ. لكنْ وبعد انقضاءِ فترةِ ولايتهِ عامَ ألفٍ وتسعمائةٍ وأربعةِ وستونَ رفضَ الرئيسُ شهابْ رفضا قاطعا تعديلَ الدستورِ للسماحِ لهُ بالترشحِ لفترةِ ولايةِ ثانيةٍ، ودعمَ شارلْ حلوْ ليكونَ خلفا لهُ في مقعدِ رئيسِ الجمهوريةِ.
خروج المارد من القمقم
في ينايرَ منْ نفسِ العامِ، عقدتْ القمةُ الثالثةُ لجامعةِ الدولِ العربيةِ بهدفِ إنهاءِ الخلافاتِ وتصفيةِ الجوِ العربيِ وتحقيقِ المصالحِ العربيةِ المشتركةِ ودعوةُ دولِ العالمِ وشعوبها للوقوفِ إلى جانبِ الأمةِ العربيةِ في دفعِ العدوانِ الإسرائيليِ. وكانَ أحدُ قراراتِ هذهِ القمةِ إنشاءَ منظمةِ التحريرِ الفلسطينيةِ والتي ضمتْ حركةَ فتحِ والجبهةِ الشعبيةِ لتحريرِ فلسطينَ بالإضافةِ إلى عددٍ منْ الفصائلِ والأحزابِ الفلسطينيةِ، وتأسستْ المنظمةُ كممثلٍ شرعيٍ للشعبِ الفلسطينيِ في المحافلِ الدولةِ، وهدفها الأساسيُ تحريرُ فلسطينَ بالكفاحِ المسلحِ. لكنْ بعدَ ثلاثِ سنواتٍ وعقبَ عدةَ خطواتٍ تصعيديةٍ، صرحَ رئيسُ الوزراءِ الإسرائيليِ وقتها ليفي أشكولْ إنهُ في حالِ استمرارِ العملياتِ الانتحاريةِ فإنَ تلَ أبيبَ ستردُ بوسائلَ عنيفةٍ على مصادرِ الإرهابِ، وقالَ رئيسُ أركانِ الجيشِ الإسرائيليِ إنَ لمْ يتوقفْ النشاطُ الفدائيُ الفلسطينيُ في الجليلِ فإنَ الجيشَ سيزحفُ نحوَ دمشقَ. وبعدُ أشهرٍ قليلةٍ وتحديدا في يونيو عامَ ألفٍ وتسعمائةٍ وسبعةٍ وستونَ، شنُ الصهاينةِ حربا شاملةً ضدَ العربِ عرفتْ بنكسةِ حزيرانَ، أوْ نكسةِ عامِ سبعةٍ وستونَ، أوْ حربِ الأيامِ الستةِ، أوْ ملحمةٍ شيشيتْ هياميمْ، واحتلوا سيناءَ المصريةَ، والجولان السوريةُ، وما تبقى منْ فلسطينَ: غزة، والضفةُ الغربيةُ. وهنا خرجتْ منظمةَ التحريرِ الفلسطينيةِ منْ تحتِ عباءةِ جامعةِ الدولِ العربيةِ، وحملَ الفدائيونَ الفلسطينيونَ السلاحَ منْ أجلِ تحريرِ بلادهمْ، واتخذتْ المنظمةُ منْ الأردنِ مقرا لها، لكنَ الفلسطينيونَ اتخذوا أيضا منْ لبنانَ قاعدةً لانطلاقِ عملياتهمْ ضدَ الصهاينةِ، فزادتْ القبضةُ الأمنيةُ في لبنانَ، وعانتْ المخيماتُ الفلسطينيةُ على الأراضي اللبنانيةِ منْ سيطرةِ المخابراتِ والتضيقِ على سكانها لضمانِ حفظِ الأمنِ الداخليِ. وهوَ ما اعتبرهُ البعضُ المعولُ الأولُ الذي ضربَ عمودُ الخيمةِ.
صراع الأشقاء
نتيجة لانطلاق العمليات الفدائية الفلسطينية من الأراضي اللبنانية، شن الصهاينة هجوماً على مطار بيروت ودمروه، ورغم ذلك كان الشارع اللبناني يدعم الفلسطينيين ويؤيد العمل الفدائي، في حين زادت القبضة الأمنية للرئيس شارل الحلو أكثر لدرجة أن فؤاد شهاب نفسه الذي دعمه للمنصب خلفاً له أبدى عدم رضاؤه عن حكم الرئيس الحلو بسبب عدّم تقيّد الأخير بالنهج الشهابي، ومناوراته السياسية لإعادة فتح الطريق أمام السياسيين التقليديين واستعادة سيطرتهم على مواقع النفوذ، وبدأت اضطرابات داخلية وتظاهرات تزعمها كمال جنبلاط زعيم الدروز اللبنانيين ومؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي، للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية.
ونتيجة للتضيق المستمر على الفلسطينيين؛ بدأت اشتباكات مسلحة بين منظمة التحرير والجيش اللبناني عام ألف وتسعمائة وتسعة وستين بعد أحداث نهر البارد، استقال على أثرها رئيس الوزراء رشيد كرامي، فتوسط الرئيس المصري جمال عبد الناصر لحل الأزمة فيما عرف باتفاق القاهرة، والذي وقّع بين الوفد اللبناني برئاسة قائد الجيش إميل البستاني، وياسر عرفات تحت إشراف وزير الدفاع المصري محمد فوزي ووزير الخارجية محمود رياض.
وأعطى اتفاق القاهرة الشرعية للوجود الفلسطيني المسلح على الأراضي اللبنانية، ومنح صلاحية إدارة شئون المخيمات للفلسطينيين الذين أكدوا في المقابل احترامهم للسيادة اللبنانية، وضرورة التنسيق مع الجيش اللبناني.
ورغم أن الاتفاق حظي بتأييد أغلب القيادات السياسية، لكن على أرض الواقع فاتفاق القاهرة لم يكن له دور حقيقي ملموس في تحسين العلاقات بين القيادة اللبنانية وقيادة منظمة التحرير، وفي رأي بعض المحللين إنه ظل حبر على ورق حتى ألغاه تماماً الرئيس أمين الجميل بعد ذلك عام ألف وتسعمائة وسبعة وثمانون رغم إعلان ياسر عرفات تمسكه بهذا الاتفاق.
اتفاق القاهرة لم يكن له دور فعال لرأب الصدع لاختلاف وجهات النظر بين الطرفين، والتعارض بين فكرة الدولة وفكرة الثورة، إلى جانب أن لبنان كانت دولة مساندة في الصراع العربي الإسرائيلي، لكن الاتفاق كان أحد الخطوات التي جعلت منها دولة مواجهة، حتى أن قادة الكيان الصهيوني وقتها أعلنوا بأن اتفاق القاهرة يعتبر خرقا للهدنة التي عقدت بينهم وبين لبنان عام ألف وتسعمائة وتسعة وأربعون.
أيلول الأسود
بعد خروجها من تحت عباءة جامعة الدول العربية، اتخذت منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن مقراً لها، وقاعدة لانطلق العمليات الفدائية ضد الصهاينة، وكرد انتقامي حاول الجيش الإسرائيلي عام ألف وتسعمائة وثمانية وستون احتلال نهر الأردن لأسباب استراتيجية، فتحالف الجيش الأردني مع مقاتلي منظمة التحرير لصد العدوان، ودارت معركة في قرية حدودية أردنية تدعى قرية الكرامة، حقق فيها الجيش الأردني والفدائيون الفلسطينيون انتصاراً كبيراً على الصهاينة اضطرهم للانسحاب الكامل.
في ذلك التوقيت كانت حرب الاستنزاف مشتعلة، والعمليات الفدائية للمصريين لا تهدأ على طول خط القناة، فجاءت معركة الكرامة لترسيخ لفكرة العمل الفدائي، وإثبات للوجود الفلسطيني شرق الأردن، فزاد الدعم للمقاتلين الفلسطينيين، ونمت قوة منظمة التحرير لدرجة أن القيادة الأردنية بحلول سنة ألف وتسعمائة وسبعين رأت أنها أصبحت دولة داخل الدولة.
وفي عملية جريئة قام رجال منظمة التحرير باختطاف أربع طائرات؛ ثلاث منهم كانت متجهة إلى نيويورك، وواحدة إلى لندن، وأجبروها على الهبوط في مهبط داوسون بالقرب من الزرقاء بالأردن، وأطلقوا سراح الرهائن عدا اليهود وست أمريكيين بارزين، ثم أخلوا الطائرات من الركاب وقاموا بتفجيرها أمام عدسات الإعلام.
كادت هذه العملية أن تتسبب في رد عسكري أمريكي ضد الأردن التي ظهرت أمام العالم في صورة العاجز عن حماية سيادة أراضية، فضاق الملك حسين ذرعاً بوجود منظمة التحرير، وتحرك الجيش وحاصر المدن التي تمركزت بها المقاومة الفلسطينية ومنها عمان وإربد وقصف المخيمات بالمدفعية الثقيلة.
وتوسط الرئيس المصري جمال عبد الناصر بين الطرفين خوفاً من نشوب حرب إقليمية، ودعا لقمة عربية طارئة، ورعى مصالحة بين الأردنيين والفلسطينيين في القاهرة، وعقب انتهاء القمة يوم الثامن والعشرين من سبتمبر عام ألف وتسعمائة وسبعون، أصيب بنوبة قلبية، وتوفي الرئيس جمال عبد الناصر.
عملية فردان واتفاق ملكارت
في نفس العام -ألف وتسعمائة وسبعون- تحالف وزير الدفاع السوري وقتها حافظ الأسد مع رئيس الأركان مصطفى طلاس وأطاحوا بالرئيس نور الدين الأتاسي، والأمين القطري المساعد في حزب البعث ورجل الدولة القوي صلاح جديد فيما عرف بانقلاب البعث في سوريا، أو ما سمي الحركة التصحيحية.
أما لبنان فكانت على موعد مع رئيس جديد خلفا للرئيس شارل الحلول وهو سليمان فرنجية، ومن المفارقات أنه وصل إلى مقعد الرئاسة بفارق صوت واحد هو صوت كمال جنبلاط الذي رجّح كفة فرنجية عن كفة منافسه إلياس سركيس، ويُذكر أن كمال جنبلاط ندم على قراره بعد سنوات قليلة بسبب ضعف قوة الدولة في الوقت الذي قويت شوكة الفلسطينيين، فانتقل مقر منظمة التحرير رسميا إلى لبنان عام ألف وتسعمائة واثنان وسبعون، وهو العام نفسه الذي اجتاحت فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي جنوب لبنان، وبدأت عمليات اغتيال بالطرود المفخخة بين الفلسطينيين والصهاينة الذين نجحوا في اغتيال الأديب والناطق باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين غسان كنفاني، بتفخيخ سيارته.
وفي العام التالي ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعون نفذت القوات الخاصة الإسرائيلية هجوماً مسلحاً في العاصمة اللبنانية بيروت قاده إيهود باراك فقتلوا ثلاثة من قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، وفجروا مقر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وهي ما عرفت بعملية فردان، والتي وضعت الحكومة اللبنانية في ماذق، ما أدى إلى استقالة رئيس الوزراء صائب سلام، وشعر اللبنانيون بأن بلدهم أصبح مخترقاً ومستباحاً.
حاول الجيش السيطرة على الوضع فوقعت اشتباكات مسلحة بينه وبين الفدائيين الفلسطينيين وصلت لاستخدام الطيران، لكن سرعان ما تراجع الرئيس فرنجية عن موقفه المعادي للوجود الفلسطيني على الأراضي اللبنانية خاصة بعدما احتج قادة الدول العربية على قراراته بضرب المقاومة الفلسطينية، وجلس الطرفان على طاولة المفاوضات وتوصلوا لاتفاق أو تفاهم عرف باتفاق ملكارت نسبة إلى اسم الفندق اللي وقع فيه.
وأهم ما جاء في اتفاق ملكارت الإقرار بأن الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان ليست بسبب الوجود الفلسطيني ولكن بسبب أطماع الصهاينة، وبالتالي أكد على حق الشعب الفلسطيني في النضال، وأيضاً ضرورة الدفاع عن لبنان وسلامة أراضيه، وأُلحق اتفاق ملكارت باتفاق القاهرة، لكن زاد الانقسام الداخلي في لبنان توسعاً، فالمسلمون دعموا الوجود الفلسطيني، بينما تخوف المسيحيون على سيادة بلدهم وحمّلوا الفلسطينيين مسئولية المشاكل التي اجتاحت البلاد.
وفي العام نفسه اندلعت حرب أكتوبر، أو حرب تشرين، أو حرب يوم الغفران فشنت مصر وسوريا هجوماً على القوات الإسرائيلية لاسترجاع الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين، وانتهت الحرب بالتوقيع على اتفاقية فك الاشتباك في العام التالي ألف وتسعمائة وأربعة وسبعون حيث أذعنت إسرائيل بالموافقة على إعادة مدينة القنيطرة لسوريا وضفة قناة السويس الشرقية لمصر مقابل إبعاد القوات المصرية والسورية من خط الهدنة وتأسيس قوة خاصة من الأمم المتحدة لمراقبة تحقيق الاتفاقية.
على شفا الهاوية
أصبح الفلسطينيين والمؤيدين لهم من اليساريين المسلمين في لبنان قوة مسلحة تُحسب لها الحسابات، في حين شرع اليمين اللبناني المسيحي خاصة حزب الكتائب والرافضين للوجود الفلسطيني في التسلح والتدريب العسكري بمساعدة الجيش اللبناني.
وبدأ اليسار المسلم موجة من التظاهرات والاحتجاجات مطالبين بإصلاحات سياسية على رأسها إلغاء الطائفية السياسية، والمناصفة في مجلس النواب بين المسلمين والمسيحيين، وهي المطالب التي عارضها قادة المسيحيين الموارنة.
وفي صيف عام ألف وتسعمائة وأربعة وسبعون اشتبكت مليشيات حزب الكتائب مع فصائل من المقاومة الفلسطينية قرب مخيم تل الزعتر، وكان هذا الاشتباك مقدمة لتصعيد خطير وقع في فبراير من العام التالي في مدينة صيدا حين خرج الصيادون في تظاهرة ضد الحكومة اللبنانية بسبب منح الحكومة امتياز صيد الأسماك على طول الساحل اللبناني لإحدى الشركات الخاصة، وانتشر الجيش في المدينة، ووقعت أحداث عنف أسفرت عن سقوط قتلى، ما أدى إلى زيادة حدة التظاهرات في صيدا وفي بيروت أيضاً.
وبعد أشهر قليلة وفي أبريل عام ألف وتسعمائة وخمسة وسبعون، وأثناء خروجه من إحدى الكنائس بضاحية عين الرمانة ذات الأغلبية المسيحية، تعرض بيار الجميل زعيم حزب الكتائب اللبنانية إلى إطلاق نار أدى إلى مصرع شخصين، فاتهم الفلسطينيين بالوقوف وراء العملية، وكرد على هذه الواقعة، أوقف مسلحون من حزب الكتائب حافلة كانت متوجهة إلى مخيم تل الزعتر وتقل أعضاءً في منظمة التحرير الفلسطينية، وأطلقوا النار على ركابها فقتلوا 27 منهم، واندلعت المعارك في الليلة نفسها بين الفلسطينيين واليمين المسيحي.
نفي رئيس حزب الكتائب بيار الجميل مسئولية حزبه عن إطلاق النار على تلك الحافلة، بينما حمله كمال جمبلاط زعيم الحركة الوطنية اللبنانية مسئولية الحادث، وأعلن انضمامه إلى صف الفلسطينيين، وتوسع القتال بمناطق أخرى في لبنان، ولم تنجح محاولات التهدئة في إخماد النار، فاستقال الوزراء من الطرفين، وأصبحت البلاد على شفى دوامة الصراعات والحرب التي سوف تدور رحاها مدة خمسة عشر عاماً.