فرسان الهيكل والحروب الصليبية ج1



حفروا أسفل المسجد الأقصى؛ فعثروا على خبيئة جعلتهم خلال فترة زمنية قصيرة جدًا يصعدون كالسهم وبشكل مذهل، من مجرد تنظيم رهباني يتكون من تسعة فرسان فقراء يعتمدون على الصدقات والتبرعات من الحجاج والمسافرين الذين يحمونهم، إلى واحد من أغنى التنظيمات في العالم، وإحدى القوى الأكثر تأثيرًا في التاريخ منذ ذلك اليوم، وإلى يومنا هذا.
كانوا القوة الضاربة للحملات الصليبية، ورسموا بأيدهم حدود وتاريخ العالم.

الحملة الصليبية الأولى
بعد انتصار السلاجقة المسلمين على الروم بمعركة (ملاذكرد) Manzikert، في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، انحسر النفوذ البيزنطي الأرثوذكسي تدريجيا في آسيا الصغرى، واستشعر الكاثوليك في غرب أوروبا قوة الخطر الزاحف عليهم، وبات جليا أن الدولة البيزنطية لن تصمد طويلًا، ولن تكون قادرة على حماية أوروبا من ناحية الشرق.
واستجابة لنداء الإمبراطور البيزنطي (ألكسيوس الأول كومنينوس) Alexius I Comnenus، قام بابا الفاتيكان (أوربان الثاني) Pope Urban II بلقاء أمراء فرنسا، وحضهم على ضرورة قتال المسلمين في الشرق بحجة تحرير الكنائس المسيحية من أيدي الكفار والوثنيين، على حد تعبيره.
وفي المجمع الكنسي الذي أقيم بمدينة (كليرمونت) الفرنسية Clermont-Ferrand، ألقى خطبة مفوهة مؤكدًا على وجوب تخليص القبر المقدس -كنيسة القيامة Holy Sepulchre- من أيدي المسلمين، ووعد المقاتلين بأن تكون رحلتهم إلى الشرق وحربهم ضد المسلمين بمثابة غفران كامل لذنوبهم.
وبذلك، استغل الدين وأسس لما عرف بصكوك الغفران Indulgence، وأصبغ الحرب بصبغة مضللة كي لا تتعارض مع طبيعة الدين المسيحي الذي يحث على السلام والتسامح؛ فلقبها بالحرب المقدسة، أو الحرب العادلة.
ونجحت دعوته في إثارة أطماع النبلاء والأمراء في أراضي الشرق الغنية، كما جذبت العامة تحت راية دينية طمعًا في الغفران، فرسموا الصليب على ملابسهم، واستعدوا لخوض الحرب.
وهكذا أشعل أوربان الثاني فتيل الحملة الصليبية الأولى بهدف معلن هو استرجاع سيطرة العالم المسيحي على الأراضي المقدسة، بينما كانت هناك أهداف سياسية، واستعمارية، واقتصادية أخرى.
في الوقت ذاته، طاف (بطرس الناسك) Pierre l’Ermite على حماره يدعو الناس ببلاغته، وبشخصيته الكاريزمية، للمشاركة في الحملة المقدسة، وتقدم بنفسه أحد الجيوش الخمسة الذي تكون من عامة الناس والبسطاء؛ لذا سميت الحملة بحملة الفقراء Crusade of the Poor.

أوروبا في العصور الوسطى
وحتى تكون الصورة واضحة، فإن أوروبا في ذلك الزمن، كانت تعيش في حقبة تعرف بالعصور الوسطى Middle ages، وهي الحقبة التي توسطت بين العصر الكلاسيكي القديم، والعصر الحديث.
وامتدت العصور الوسطى بين القرنين الخامس، والخامس عشر الميلاديين، واتسمت بسيادة نظام الإقطاع، حيث استحوذ النبلاء على مساحات شاسعة من الأراضي يملكونها بمن عليها من البشر (الأقنان) Serfdom، أي: عبيد الأرض.
فكان غالبية الأوروبيين محرومين من التعليم، يعانون أوضاعًا اقتصادية وظروفًا معيشية سيئة للغاية.
وفي ظل هذه الظروف، وفي ظل هذا الجهل المطبق على الغالبية العظمى، كان من اليسير زرع أية أفكار في العقول ولو بغطاء ديني مزيف؛ لتحقيق أهداف دنيوية، وتأجيج التعصب الأعمى.
ولأن المجتمع الأوروبي كان مقسمًا إلى طبقات اجتماعية متمايزة، تتوسطها طبقة الفرسان، لذا كان حمل السلاح ضروريًا للبقاء على قيد الحياة في ظل تلك الظروف المعيشية الصعبة والمتردية.
في حين كانت طبقة رجال الدين مهيمنة باعتبارها القوة الروحية الحاكمة، وكانت أملاك الكنيسة تساوي أو تزيد في بعض الأحيان عما يملكه الملوك والأمراء.

الاحتلالي الصليبي للشرق
قبيل انطلاق الحملة، أقسم الجميع على الولاء للإمبراطور البيزنطي، وتعهدوا بتسليم جميع الأراضي التي يستولون عليها من المسلمين إليه.
وتحركت الجيوش تحت راية الصليب نحو آسيا الصغرى، فهزموا السلاجقة الذين كانوا وقتئذ في صراعات داخلية
وبعد حصار طويل لمدينة أنطاكية، تمكنوا من دخولها، واستمر زحفهم عبر الساحل الشامي نحو بيت المقدس -التي كانت تحت حكم الفاطميين- ففرضوا عليها حصارًا.
وفي يوليو عام 1099، نجحوا في احتلالها، فأعملوا الذبح في سكانها بوحشية، حتى رُوي أن الخيول كانت تخوض في برك من الدماء، وبلغ عدد القتلى مائة ألف من المسلمين واليهود، والمسيحيين الشرقيين أيضا، بحسب بعض المصادر.
لكن عوضا عن تسليمها إلى الامبراطور البيزنطي كما تعهدوا، نكثوا بيمينهم، وأسسوا أربع إمارات صليبية هي: الرُها، وأنطاكية، وطرابلس، وبيت المقدس، التي سميت مملكة بيت المقدس.
وأقاموا عددًا من المستوطنات، وأطلقوا الدعوات إلى الأوروبيين للانتقال إليها والاستقرار بها؛ فأصبح الأقنان الذين كانوا عبيد الأرض، ملاكا لها، وصار فقراء الأمس أسيادًا.
وتم تنصيب (بالداوين الأول) Baldwin I ملكا على مملكة بيت المقدس، والتي ظلت قائمة تحت حكم الصليبيين لما يقرب قرنًا من الزمان، رغم أنها كانت محاطة بالعالم الإسلامي.
بيد أن ذلك العالم الإسلامي كان حينئذ جسدًا عليلًا منقسمًا على ذاته إلى دولتين كبيرتين متناحرتين، الأولى هي الدولة العباسية السنية، وعاصمتها بغداد، والثانية هي الدولة الفاطمية الشيعية، وعاصمتها القاهرة.
فضلا عن تخاذل الأمراء المسلمين، وتقاعسهم عن مواجهة الصليبيين.
نجحت الحملة الصليبية الأولى واحتل الصليبيون القدس، وتوسعوا في الساحل الشامي، فاحتلوا نابلس، وبيسان، وطبرية، وحيفا، وأرسوف، وعكا، وطرابلس، وصيدا، وبيروت، وغيرها من المدن.
كما حاولوا احتلال حلب، فضربوا عليها حصارًا.
ورغم أن المدينة قاومت الحصار، إلا أن حاكمها السلجوقي (فخر الملك رضوان) هادن الصليبيين وخنع لهم بغرض حماية نفسه والحفاظ على أملاكه الخاصة، لدرجة أنه أمر بنصب الصليب فوق قبة المسجد الجامع في حلب، بناء على أمر من أمير أنطاكية (تانكرد) Tancred.

بداية الصحوة الإسلامية
ثارت ثائرة الشعب على مثل هذه الممارسات، وتزعم الاحتجاجات القاضي (أبو الفضل ابن الخشاب) الذي سافر لاحقًا إلى بغداد لطلب الدعم العسكري من الخلافة العباسية؛ فتوجه أمير الموصل (شرف الدين مودود) على رأس جيش نحو حلب، وتمكن من فك الحصار الصليبي عنها.
ثم توجه إلى دمشق استجابة لطلب أميرها (ظاهر الدين طغتكين) لمساعدة أهلها ضد الهجمات الصليبية التي شنتها مملكة بيت المقدس، والتقى جيش بالداوين الأول في معركة الصنبرة جنوب طبرية، فحقق شرف الدين مودود أول انتصار كبير للمسلمين على الصليبيين.
لكن سرعان ما امتدت إليه يد الغدر، وقام أحد عناصر فرقة الحشاشين الباطنية باغتياله.
وهي طائفة شيعية إسماعيلية نزارية، أسسها الحسن بن الصباح، لتكون بمثابة الخنجر الموجه إلى ظهر الأمة الإسلامية، واعتمدوا أسلوب الغدر والاغتيالات السياسية لتصفية خصومهم.
بعد وقت ليس بالبعيد، اغتال الحشاشون أيضًا أبو الفضل ابن الخشاب في حلب، وتوفي أميرها فخر الملك رضوان، فخلفه ألب الدين أرسلان، الذي سرعان ما قُتل على يد أحد خدمه.
أما في الموصل، فتوفي أميرها عز الدين مسعود، وخلفه أميرا شابًا قويًا: حمل لواء عهد جديد في الحرب ضد الصليبيين، هو عماد الدين زنكي، والذي سرعان ما توجه إلى حلب، وعقد تحالفًا معها، لتصبح حلب والموصل، القوة الوحيدة التي ستقف في وجه الصليبيين، إلى أن تقهرهم لاحقًا.

نشأة منظمة فرسان الهيكل
في ذلك الوقت، كان قد مات ملك بيت المقدس بالداوين الأول، وخلفه ابن عمه بالداوين الثاني، وكان لعدم استقرار الأوضاع السياسية في المنطقة تأثيرًا سلبيًا على الأمن.
فعلى الرغم من إحكام الصليبيين قبضتهم على الأمور في القدس، إلا أن سائر الأراضي المحتلة عجت بقطاع الطرق، وكانت قوافل الحجيج المسيحيين تتعرض للإغارة والسلب والنهب والقتل.
لذا، قام أحد الفرسان الفرنسيين واسمه (هيوج دي بينز) Hugues de Payens بمقابلة بالداوين الثاني، واقترح عليه إنشاء تنظيما رهبانيًا عسكريًا بهدف حماية الحجيج والمسافرين الأوروبيين الذين يزورون الأراضي المقدسة.
لكن هذا الهدف كان غطاء لهدف آخر، هو التنقيب عن الآثار الدينية، وهي عملية كانت منتشرة في تلك الفترة.
بيد أن تنقيبهم لم يكن عشوائيًا مثل الآخرين، ولم يعتمدوا على المصادفة التي قد تقودهم إلى كنز دفين، بل كان مدروسًا وكأنهم يبحثون عن شيء بعينه.
وافق بالداوين الثاني على الاقتراح، وأُنشئ التنظيم الذي تأسس من تسعة فرسان عام 1120 كامتداد لمنظمة مالطة، أو منظمة فرسان مالطا، والتي تأسست عام 1050، أو عام 1099 -بحسب اختلاف الآراء- على يد بعض التجار الإيطاليين باعتبارها هيئة خيرية لرعاية الحجاج المسيحيين في الأراضي المقدسة، أو مثل فرسان الإسبتارية (فرسان القديس يوحنا).
واتخذ التنظيم الجديد مقرًا بجبل الهيكل في المسجد الأقصى، والذي يسميه اليهود معبد سليمان، أو (هيكل سليمان)، ومن هنا أطلق أعضاء التنظيم على أنفسهم لقب (الجنود الفقراء للمسيح ومعبد سليمان)، وعرفوا اختصارًا بفرسان المعبد، أو (فرسان الهيكل)، كما عرفوا أيضا بالداوية.
مع العلم أن هناك خلافًا بين المؤرخين حول نشأة التنظيم وتشعباته.

تحرير إمارة الرها
بعد وقت ليس ببعيد، مات بالداوين الثاني وخلفه على مملكة بيت المقدس زوج ابنته (فولك) Fulk.
وبعدما مات هو الآخر تولى ابنه الأكبر بالداوين الثالث.
أما عماد الدين زنكي، فبعد نجاحه في توحيد الموصل وحلب حاول ضم دمشق، لكن أميرها (معين الدين أنر) الذي خلف ظاهر الدين طغتكين، رفض وتوافق مع الصليبيين.
فاتجه عماد الدين إلى إمارة (الرُها) عام 1144 لاسترجاعها، إلا أن أميرها الصليبي (جوسلين) Jocelyn قام بتعزيز التحصينات، ورفض المغادرة، وثبت للدفاع.
فوضع عماد الدين خطة خداع استراتيجية، وأظهر أنه متجه لمحاربة القبائل الكردية في منطقة ديار بكر لأنهم يرفضون الانضمام إليه.
انطلت الخدعة على جوسلين، فخفف من شدة التحصينات، وسافر إلى فرنسا.
وحين وصلت الأخبار إلى عماد الدين؛ انقض على المدينة، ونجح في تحريرها بعد اثنين وأربعين عامًا من احتلالها، لتصبح الرُها أول إمارة يتم تحريرها، والشرارة الأولى للصحوة الإسلامية وإحياء فضيلة الجهاد.
وأصبح عماد الدين زنكي بطلًا تعلقت عليه الآمال لاسترداد بيت المقدس.
لكن القدر لم يمهله، وطالته يد الغدر، فقُتل وهو نائم بيد خادمه الذي قيل بأنه كان مواليا للصليبيين، وقيل بأنه كان أحد أعضاء فرقة الحشاشين.
وخلف عماد الدين زنكي ابنه (نور الدين محمود)، وهو شاب مفعم بالزهد والقيم الإيمانية، واتخذ من الجهاد سبيلًا لحياته على خطى المسلمين الأوائل.
وعمل على أن تكون الصحوة الإسلامية مدعومة بصحوة فكرية، فاستقدم العلماء والفقهاء، وأسس نهضة شاملة تقوم على نشر فضائل الجهاد في سبيل الله؛ باعتباره السبيل الوحيد لاسترداد الأرض وإعلاء كلمة الحق.

الحملة الصليبية الثانية
كان لنبأ سقوط إمارة الرُها وقع الصدمة على العالم المسيحي، لذا، دعا البابا (إيوجين الثالث) Eugenius PP. III والقديس (برنارد دي كليرفو) Bernard de Clairvaux رئيس الدير الفرنسي، وابن أخ أحد فرسان الهيكل التسعة، إلى حملة صليبية ثانية.
فاستجاب ملك فرنسا (لويس السابع) Louis VII، وملك ألمانيا (كونراد الثالث)، وعدد من النبلاء؛ لتصبح أول حملة يقودها ملوك أوروبا.
لكنها كانت حملة غير واضحة الرؤية والأهداف، وتوجهت مباشرة إلى دمشق لاحتلالها بهدف قطع الطريق على نور الدين محمود.
إلا أن ذلك أوقعهم في خطأ سياسي، حيث كانت دمشق على وفاق مع الصليبيين في بيت المقدس.
وأدى حصارها إلى تفاقم الخلافات بين قادة الحملة الثانية، والصليبيين الذين استقروا في المنطقة منذ الحملة الأولى، الأمر الذي تسبب في أزمة ثقة بينهما وبين أهل دمشق الذين أرسلوا إلى نور الدين يطلبون عونه؛ ليدخلها عزيزًا كريمًا، مطلوبًا إلى نصر ساقه الله إليه.
وسرعان ما عادت الحملة الصليبية الثانية تجر أذيال الخيبة، وكأنها ما جاءت إلا لتحقق هدفًا واحدًا لصالح المسلمين؛ وهو توسيع الجبهة الإسلامية التي أصبحت تضم الموصل وحلب والرُها، وأخيرا دمشق.

الصراع على مصر
في ذلك الوقت، مات ملك مملكة بيت المقدس بالداوين الثالث، وخلفه أخوه (عموري الأول) Amaury I، وكان خصما عنيدًا قويًا ذكيًا، فطن إلى أن مصر هي رمانة الميزان، ومن يستطيع ضمها إليه ستكون له الغلبة على خصمه.
كانت مصر في ذلك الوقت تحت الخلافة الفاطمية التي تعاني الضعف، فلم يكن للخليفة الفاطمي سوى الدعاء له على المنابر، تعبيرا عن كونه حاكما للبلاد.
إلا أن منصب الخليفة كان شرفيًا، بينما أمور الحكم بيد الوزراء.
ظلت عين عموري على مصر، إلى أن جاءته الفرصة عندما طلب منه والي الصعيد (ضرغام بن ثعلبة) التدخل لحسم الصراع على كرسي الوزارة بينه وبين الوزير (شاور بن مجير)، والذي كان قد لجأ إلى نور الدين محمود، فأرسل نور الدين القائد العسكري (أسد الدين شيركوه) لنصرة شاور.
فاصطحب شيركوه معه ابن أخيه (يوسف بن شاذي) ولم يكن يبلغ من العمر وقتئذ السادسة عشرة.
نجح شيركوه في إعادة شاور إلى منصبه، وتحصن في مدينة بلبيس، بيد أن شاور تخوف من هيمنة شيركوه، فغدر به، وانقلب ضده، وأرسل إلى عموري يطلب منه الحضور إلى مصر.
فجاء وحاصر بلبيس ثلاثة أشهر، ثم توصل الطرفان إلى اتفاق يقضي برحيلهما عن الديار المصرية.
إلا أن شاور أرسل إلى عموري من جديد، ولما علم نور الدين بذلك، أرسل أسد الدين شيركوه مجددًا إلى مصر، فاصطحب معه أيضًا ابن أخيه يوسف بن شاذي.
وهو الشاب الذي سيصبح فيما بعد السيف الذي يقطع دابر الصليبيين، والمعول الذي يحطم أسطورة فرسان الهيكل في الشرق، بعدما يوحد جيوش الإسلام، ويشتهر باسمه المعروف للشرق والغرب (صلاح الدين الأيوبي)
بعد عدة معارك وصراعات بين المسلمين والصليبيين على أرض مصر، تمكن شيركوه من دخول القاهرة، فتخلص من شاور، وتولى الوزارة تابعًا للخليفة الفاطمي.
وبذلك، أصبحت مصر فعليًا جزءًا من الدولة الزنكية التي يحكمها نور الدين محمود.
وعقب وفاة شيركوه، أسند الخليفة الفاطمي الوزارة إلى صلاح الدين، فأحكم قبضته على البلاد رغم المؤامرات التي حاكها أصحاب الأطماع والمصالح.
أدرك الملك عموري تحول ميزان القوى في المنطقة لصالح المسلمين، فبعث إلى الفاتيكان يطلب إرسال حملة صليبية، لكن لم يستجب ملوك وأمراء أوروبا، فتحالف مع الإمبراطور البيزنطي (مانوئيل كومنينوس) Manuel I Komnenos، أو (عمانوئيل الأول)، وقادا معا حملة على مصر، فحاصرت سفن الأسطول الصليبي مدينة دمياط تمهيدًا لاحتلالها والانطلاق منها نحو القاهرة.
فأرسل قواته للدفاع عن المدينة، وقامت حامية دمياط وأهلها بدور بطولي، فكانت الغلبة للمسلمين.
وانسحب الأسطول البيزنطي، ومن بعده أسطول الملك عموري، والذي مات بعد وقت ليس بالبعيد، وخلفه ابنه بالداوين الرابع، والذي عُرف بالملك المجذوم، نظرًا لأنه كان مصابًا بمرض الجذام.

حكم صلاح الدين الأيوبي لمصر
بعد معركة دمياط، استتب الأمر لصلاح الدين في حكم مصر، وأرسل إليه نور الدين يطلب منه إيقاف الدعاء للخليفة الفاطمي (العاضد لدين الله) على المنابر، والدعاء للخليفة العباسي (المستضيء بأمر الله).
وما لبث أن توفي الخليفة الفاطمي، فأصبح صلاح الدين الحاكم الفعلي لمصر، ونقل أسرته ووالده (نجم الدين) إليها.
وهكذا انتهى حكم الفاطميين في مصر بعد 262 عامًا، وعادت تابعة للخلافة العباسية تحت حكم الدولة الزنكية.
وبعد ثلاث سنوات، وفي عام 1174، توفي الأمير نور الدين محمود، واستخلف ابنه الصبي (الصالح إسماعيل)، وعين (سعد الدولة كُمشتكين) وصيا عليه.
فدخل الأمراء الزنكيون في صراع حاد حول كرسي الحكم، وأصبح على صلاح الدين أن يخوض حربًا داخلية لحسم الأمر، وتوحيد راية الأمة.

صعود فرسان الهيكل
وسط كل هذه الأحداث، كان أمرًا جللًا يحدث في الخفاء، وتُرسم المعالم الأولى لخطة استمرت لأكثر من ألف عام، ولم يكشف فصول منها إلا أصحابها أنفسهم بأنفسهم، بينما ما خفي منها ما زال أعظم.
فيبدو أن زعماء فرسان الهيكل عثروا على ما كانوا يبحثون عنه حينئذ، وانطلقوا عائدين إلى فرنسا بعدما أرسوا دعائم تنظيمًا اشتهر سريعًا بسمعته الطيبة، وشجاعة مقاتليه.
وأصبح لهم أيضا صوتًا مسموعًا في الفاتيكان -رأس العالم المسيحي- متمثلًا في القديس (برنارد دي كليرفو) Bernard de Clairvaux، رئيس الدير الفرنسي، والذي كان أحد الدعاة إلى الحملة الصليبية الثانية، وابن أخ أحد الفرسان التسعة.
دعم برنارد التنظيم بكل قوته، وتحدث وكتب عنه مادحًا نبل وشجاعة فرسانه، حتى أنه قام بتأليف كتاب بعنوان (في مديح الفارس الجديد) يمجد فرسان الهيكل، ويعزز نموهم، محاولًا الحصول على شرعية لهم على مستوى رفيع.
واستمرت محاولاته إلى أن حصل على الموافقة والمصادقة على التنظيم باسم الكنيسة، فأصبحوا قِبلة الهبات والتبرعات، وأُغدقت عليهم العطايا من أموال وأراضٍ، وتوافد عليهم المتطوعون، لدرجة أن عائلات النبلاء أصبحوا يرسلون أبناءهم الذكور للانضمام إلى تنظيم فرسان الهيكل، الذين أصبحوا يتميزون بلباسهم الأبيض المزين بصليب أحمر.
وفي عام 1139، أصدر البابا (إينوسنت الثاني) Innocentius PP. II، مرسومًا بابويا عُرف بالعطية بالغة الكمال، يمنح فرسان الهيكل حقوقا خاصة، منها إعفاؤهم من دفع الضرائب، وعدم الخضوع للقانون المحلي أو لأية سلطة باستثناء سلطة البابا فقط.
ولك أن تتخيل جماعة في عصرنا الحالي تحصل على قرار يجعل أعضاءها لا يخضعون لسلطة القانون، فما الذي يملكونه ليجعلهم قوة تتمكن من الضغط والتأثير على السلطة الحاكمة لدرجة إعفائهم من المسائلة القانونية على أفعالهم؟
وهكذا نمت قوتهم، وزاد عددهم بسرعة، فوصلوا -حسب بعض المصادر- إلى عشرين ألف عضو، منتشرين في أوروبا والشرق الأوسط، وتحولوا من حماة الحجاج إلى فيلق النخبة، والقوة الضاربة في الجيش الصليبي.
تحكمهم قواعد سلوكية صارمة، مثل العفة والتقوى والطاعة وتجنب النساء.
وقواعد تنظيمية وعسكرية أشد صرامة، أهمها السرية، وعدم التراجع في ميدان القتال، فالموت بالنسبة لهم شرف عظيم جائزته الغفران والجنة.
وبهذه الصفات تشابهت عقيدتهم القتالية بعقيدة المسلمين؛ ما جعلهم معروفين بالشجاعة والإقدام.
وفي غضون سنوات قليلة أسسوا فروعًا في جميع أنحاء أوروبا الغربية، وامتلكوا أسطولًا كبيرًا من السفن.
كما أنشأوا نظامًا مصرفيًا يسمح للحجاج بإيداع أموالهم في بلدانهم الأصلية، وسحبها عند الوصول إلى الأراضي المقدسة لتجنب التعرض للسرقة في الطريق.
وتوسعوا في شراء مساحات شاسعة من الأراضي، وبنو القلاع والحصون والكاتدرائيات، ووصل بهم الثراء إلى أن أصبحوا مثل مؤسسة مالية، أو بنك رئيسي، أو (بنك دولي)، يُقرض الملوك والنبلاء الأوروبيين.
ومن ثم أصبحت لهم القدرة على التحكم في الملوك، وسن القوانين والتشريعات، والتلاعب بمقدرات الشعوب بما يخدم مصالحهم، تماما كما هو الحال اليوم.

صلاح الدين الأيوبي والصراع على الحكم
استناب صلاح الدين أخويه (العادل سيف الدين) على مصر، و(سيف الإسلام) على دمشق، وسار نحو حلب التي تحصن فيها الأمراء الزنكيون وحاصرها عام 1175.
لكن، وكما كان لمشروعه الوحدوي أعداء في الخارج، كان له أيضًا أعداء أخطر في الداخل.
فبالإضافة إلى الأمراء الطامعين في الحكم، كانت فرقة الحشاشين تضمر له الحقد والكراهية، خاصة بعدما أسقط الدولة الفاطمية الشيعية في مصر، وأقام دولة تتبع المنهج السني.
فاتفق شيخ الحشاشين وقتها (رشيد الدين سنان) مع كُمشتكين، وأُرسلت كتيبة من ثلاثة عشر فردُا تسللوا إلى خيمة صلاح الدين محاولين اغتياله، لكنهم فشلوا.
في حين مارس أعداؤه من الزنكيين حربًا إعلامية ضده، واتهموه بأنه نسي أصله، فهو ليس إلا خادمًا للملك العادل نور الدين محمود، لكنه خادم غير وفي ولا يؤتمن، خان سيده ومولاه، ونكر المعروف.
فأجاب عن هذه الاتهامات بأنه لم يحاصر حلب، ولم يحضر إلى الشام إلا لحماية دار الإسلام من الجيوش الصليبية، ويستعيد ما سُلب من الأراضي المقدسة، وأن هذه مهمة لا يمكن أن يتولاها صبي لم يبلغ أشده بعد، ويسهل التلاعب به من قِبل أصحاب النفوس الخبيثة.
لعلك عرفت الآن من أين جاءت المؤلفات التي اعتمد عليها بعض المأجورين ومحدودي الفكر في عصرنا الحالي لتشويه صورة هذا البطل.
انطلق صلاح الدين بعد ذلك على رأس قوة إلى مدينة حماه، واستعادها من الصليبيين بسهولة، ثم انتصر على الزنكيين وصالحهم، ودخل حلب.
وبذلك، توحد المسلمون في دولة كبيرة يحكمها قائد قوي شجاع، نصب عينيه هدف واضح هو تحرير بيت المقدس، وكل بلاد الإسلام من دنس الصليبيين.
ثم أعلن صلاح الدين نفسه ملكًا على البلاد التي فتحها، وأسند إليه الخليفة العباسي السلطة على مصر والمغرب الأدنى والنوبة والحجاز وتُهامة وفلسطين وسوريا الوسطى، وخطب له أئمة المساجد باسم (الملك الناصر).
وبدأ التجهيز لمشروعه الكبير الذي يهدف إلى توحيد المسلمين تحت راية واحدة لمواجهة الصليبيين، ونزع شوكة تنظيم فرسان الهيكل من جسد الأمة الإسلامية.
في مملكة بيت المقدس، خطط بالداوين الرابع -المجذوم- للهجوم على صلاح الدين في مركز قوته في مصر، وطلب دعم البحرية البيزنطية.
في حين اشتبك جيشه مع جيش المسلمين بمعركة تل الجزر، أو معركة الرملة، وهُزم صلاح الدين في هذه المعركة هزيمة قاسية، وانسحب إلى مصر.
لكنه سريعًا استجمع قوته، وراح بعد ذلك يسدد الضربات إلى الصليبيين واحدة تلو الأخرى.
وفي عام 1190، زحف جيش بالداوين نحو دمشق، ودارت معركة قرب نهر الأردن انتصر فيها المسلمون، وأُسر زعيم فرسان الهيكل، وعدد كبير من كبار الفرسان الصليبيين، وكاد بالداوين الرابع نفسه أن يقع أسيرًا لولا أنه استطاع الفرار بصعوبة.
ثم أرسل إلى صلاح الدين يعرض عليه الهدنة؛ فوافق.
لم يمض وقت طويل بعد ذلك حتى مات بالداوين الرابع، وقام بطريرك القدس بتتويج (سيبيلا) Countess Sibylla -شقيقة بالداوين- ملكة على مملكة بيت المقدس، فقامت بوضع التاج على رأس زوجها (جي دي لوزينيان) Guy de Lusignan، ليصبح الملك.

معركة حطين
في عام 1187، قام حاكم إمارة أنطاكية (رينو دي شاتيون) Renaud de Châtillon، والمعروف باسم (أرناط)، بخرق الهدنة، وأغار على قافلة تجارية كانت متجهة من القاهرة إلى دمشق ونهبها، وقتل وأسر أفرادها.
قيل إن أخت صلاح الدين كانت في هذه القافلة، لكن هذا لم يثبت.
كان أرناط معروفًا بالتهور والوقاحة والوحشية، والكراهية الشديدة للإسلام والمسلمين، لدرجة أنه دعا فرسان الصليبيين للهجوم على المدينة المنورة ومكة، ونبش قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهدم الكعبة؛ بغرض إهانة المسلمين وإلهاء صلاح الدين عن القدس.
وتحالف مع فرسان الهيكل بالفعل، وأرسل أسطولًا عبر البحر الأحمر لتحقيق هذا الهدف.
لكن الملك العادل سيف الدين -أخو صلاح الدين- انطلق من مصر على رأس جيش واستطاع هزيمتهم والعودة بقادة الأسطول أسرى إلى القاهرة، فأصدر صلاح الدين قرارا بإعدامهم؛ ليكونوا عبرة لمن يعتبر وتسول له نفسه تكرار هذا الأمر.
ثم أرسل صلاح الدين إلى ملك بيت المقدس لوزينيان، يطالبه بالتعويض عن الضرر، والإفراج عن أسرى القافلة التجارية، ومحاسبة الفاعل، لكنه كان ضعيفا أمام قوة ونفوذ أرناط، فلم يستجب.
فأعلن صلاح الدين الاستنفار استعدادًا لمعركة ضخمة، وأقسم على قتل أرناط بيده.
وفتح باب التطوع في مصر، وأرسل إلى الموصل وشبه الجزيرة العربية والشام يطلب منهم دعم الجيش، فأيده الخليفة العباسي (الناصر لدين الله)، وأمر الملوك في الأقطار الإسلامية بمعاونته بجنودهم وجيوشهم.
فانهال المتطوعون من أرجاء العالم الإسلامي، وتوحد جيش ضخم تحت راية واحدة، لتحقيق هدف واحد، هو تحرير بيت المقدس.
بدأ صلاح الدين الحرب بحصار (طبرية)، في حين حشد الصليبيون أضخم جيش استطاعوا حشده منذ قدومهم إلى الشرق، وتجمعوا في (صفورية).
واختلف قادتهم، هل يزحفون نحو طبرية لملاقاة المسلمين هناك، أم ينتظرون قدومهم؟
كان الأمير (بليان دي إبلين) Balian d'Ibelin يرى أن خروجهم لملاقاة صلاح الدين خطأ سيؤدي إلى تدمير الجيش، وسيترك بيت المقدس بلا دفاعات.
بينما عارضه أرناط -المعروف بتهوره وغروره- ورأى ضرورة الزحف نحو المسلمين.
وأيده في ذلك مقدم الداوية، أو زعيم تنظيم فرسان الهيكل.
واستقر القرار على المسير لملاقاة جيش المسلمين، ليقع الصليبيون في خطأ كارثي.
فالطريق طويلة، وشمس الصيف قاتلة، وإمدادات المياه بعيدة، والآبار على طول الطريق ردمها المسلمون كجزء من خطة صلاح الدين لاستدراجهم وإنهاكهم.
عسكر الصليبيون عند (حطين) منهكين عطشى، بينما عسكر جيش المسلمين بحيث تكون بحيرة طبرية خلفهم، ومن ثم لا يستطيع الصليبيون الوصول إلى الماء.
وفي الليل، تسلل بعض الجنود المسلمين وأشعلوا النار في أجزاء من معسكر العدو، فحرموهم حتى من النوم والراحة.
وبذلك، تجمعت كل عناصر النصر للمسلمين بعون الله، ثم بفضل التخطيط الجيد.
وفي صباح يوم المعركة، كان الجيش الصليبي منهكًا مرهقًا، فتعالت التكبيرات تزلزل الأرض، وانتصر المسلمون انتصارًا ساحقًا بموقعة حطين عام 1187، وتساقط فرسان الهيكل الأشداء والشجعان مثل أوراق الخريف تحت أقدام خيول جند الإسلام.
واستسلم العديد من القادة والبارونات، والألوف من الجنود والفرسان، وفر بضع مئات إلى مدينة (صور)، واحتموا وراء أسوارها.
وأُسر ملك بيت المقدس لوزينيان، والأمير بليان، والمجرم أرناط الذي قتله صلاح الدين بيده، ليبر بيمينه قائلًا: "لقد نذرت مرتين أن أقتله إن ظفرت به، إحداهما لما أراد المسير إلى مكة والمدينة، والأخرى لما نهب القافلة واستولى عليها غدرًا"
ثم أعفى عن بليان، وسمح له بالذهاب إلى بيت المقدس، شريطة ألا يبيت فيها أكثر من ليلة واحدة.
لكن حين وصلها بليان، تمسك أهلها به، وتوسلوا إليه كي يبقى معهم ليدافع عن المدينة، فعمل على رفع الروح المعنوية المنهارة لدى الجنود، وقام بتحصين الأسوار استعدادًا لقدوم صلاح الدين الذي أصبح طريقه نحو بيت المقدس مفتوحًا.
بيد أن صلاح الدين كان قائدًا مخضرمًا، وفطن إلى ضرورة فتح مدن الساحل الشامي قبل بيت المقدس؛ حتى لا تصبح لاحقًا جيوبًا دفاعية ضده.
فحرر عكا، وصيدا، وبيروت، وجُبيل، وجميع مدن الساحل عدا صور؛ إذ رأى أن فتحها سوف يستغرق وقتًا طويلًا، فتركها متجها نحو بيت المقدس، وحاصرها عارضًا على أهلها الاستسلام مقابل الأمان والمحافظة على أرواحهم.
إلا أنهم رفضوا ظنا منهم أن المسلمين سيغدرون بهم، وينتقمون منهم، ويقتلونهم مثلما فعل الصليبيون عند احتلال المدينة.

تحرير القدس
فبدأ صلاح الدين الهجوم في العشرين من سبتمبر عام 1187، غير أن بليان استبسل في الدفاع، إلى أن نجح الجنود المسلمون في الوصول إلى السور الشمالي ونقبوه.
أدرك بليان أن المدينة ستسقط لا محالة، وأن استمرار الدفاع لن يجدي نفعًا، فأرسل إلى صلاح الدين يعرض عليه الاستسلام شرط الأمان والمحافظة على الأرواح، وهي الشروط نفسها التي عرضت عليه سابقًا.
ومع ذلك، رفض صلاح الدين وأصر على تسليم المدينة دون قيد أو شرط.
لم يجد بليان بدًا من الاستسلام، فعامل صلاح الدين الصليبيين معاملة تليق بروح الإسلام السمحة، ومنح جميع أهلها من المدنيين والجنود والفرسان الخروج الآمن نظير فدية رمزية، وسدد من ماله الخاص عن كل من لم يستطع دفعها.
وهذا ما شهد به حتى أعداؤه، وسجلوا في كتاباتهم مواقفه المشرفة، التي تدل على كرمه ومروءته.
ولما وصل الخبر إلى بغداد، أرسل الخليفة العباسي إليه لوحًا منقوشًا كتب أعلاه قول الله تعالى: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ"
دخل صلاح الدين بيت المقدس في الثاني من أكتوبر عام 1187، حامدًا الله الذي أعز الإسلام والمسلمين، ونصرهم، وطهَّر الأقصى وحرره من احتلال دام ثمانية وثمانين عامًا.
وارتفعت راية الحق خفاقة في سماء القدس مؤكدة أن النصر لا يأتي إلا على أسنة الجهاد، وأن التخاذل والخنوع للعدو يورث الذل والحسرة.
لقد كانت هذه اللحظة التاريخية تتويجاً لكفاح طويل اختتم بمعركة حطين الخالدة، وتوج باستعادة القدس والتي دخلها صلاح الدين ليُنهي 88 عام من الاحتلال الصليبي لها، فعمل على تطهير المسجد الأقصى وقبة الصخرة من كل الآثار الصليبية، كما أمر بإزالة الصليب الضخم الذي كان يعلو قبة الصخرة، وأزال الجدار الذي قسم المسجد الأقصى إلى أجزاء، ثم أعاد تزيين المسجد بالفروش الفاخرة والمصابيح المذهبة، وفتح أبوابه للصلاة بعد أن ظلت مغلقة أمام المسلمين لعقود.
ورغم انتصاره العسكري الساحق، لم يسعَ للانتقام. فبينما ذبح الصليبيون عشرات الآلاف من المسلمين واليهود عند احتلالهم القدس عام 1099، اختار صلاح الدين طريق التسامح، وأظهر حكمة نادرة في تعامله مع سكان القدس، حيث أصدر عفواً عاماً عن جميع السكان، وسمح للمسيحيين الشرقيين (الأرثوذكس) بالبقاء في المدينة. أما الصليبيون الغربيون (الكاثوليك)، فسمح لهم بمغادرة المدينة بأمان بعد دفع فدية رمزية أعفي آلاف الفقراء من دفعها، كما سمح للنبلاء الصليبيين ببيع ممتلكاتهم قبل المغادرة، وأمن لهم طريقاً آمناً إلى المدن الساحلية.
وبذلك كتب صلاح الدين الأيوبي فصلاً فريداً في سجل التاريخ، إذ لم يكن تحرير القدس مجرد فتح عسكري تقليدي، بل نموذجاً لتحويل الانتصار العسكري إلى مبادئ إنسانية سطر صلاح الدين من خلالها أسساً جديدة للتعامل مع المدن المحررة تقوم على الرحمة في التعامل، والحكمة في الإدارة، والتسامح في أسمى صوره.
هذه المبادئ التي جعلت المؤرخين عبر العصور - شرقاً وغرباً - يقفون إجلالاً لهذا النموذج الفريد من القيادة، وليس أدل على ذلك من شهادة المؤرخ الإنجليزي المرموق ستيفن رونسيمان في موسوعته الشهيرة "تاريخ الحروب الصليبية"، حيث وصف تصرفات صلاح الدين بأنها "نموذج فريد من النبل في عصر كانت فيه الوحشية هي السمة الغالبة".
بل إن بعض المصادر الأوروبية المعاصرة لتلك الأحداث، رغم تحيزها الطبيعي، اضطرت للإشادة بمواقفه التي فاقت في رحمتها ونبلها ما كان متعارفاً عليه في ذلك الزمان.
واليوم، وبعد مرور أكثر من ثمانية قرون كاملة، تظل هذه اللحظة التاريخية شاهدة على أن أعظم الانتصارات ليست تلك التي تسطرها السيوف، بل تلك التي تنقشها القيم في سجل الإنسانية، وتذكرنا بأن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على الجمع بين البطولة العسكرية والنبل الأخلاقي، بين التمسك بالحقوق والانفتاح على قيم التسامح الديني، بين ضرورات الحرب ومتطلبات السلام.
وبذلك يمكن القول بأن فتح القدس قد تحول على يد صلاح الدين من مجرد حدث تاريخي إلى نموذج إنساني لا بد أن يقدم للبشرية جمعاء خاصة في حاضرنا، ورسالة أمل مفادها أن النصر الحقيقي هو الذي يترك وراءه إرثاً إنسانياً يستحق أن يُحفظ في ذاكرة الأجيال كدرس في القيادة الرشيدة التي تعرف متى تقاتل، وكيف تنتصر، ولماذا تسامح.
لم يمض وقت طويل بعد هذا الفتح المبين، إلا وتجمع بقايا الصليبيين في مدينة صور التي مهدت لكتابة فصل جديد من فصول الحروب الصليبية، وأعادت تشكيل خريطة الصراع لسنوات قادمة.
فبعد سبعة أشهر من الحصار، اضطر صلاح الدين لتركها متجهاَ إلى القدس، كي تبقى الجيب الدفاعي الوحيد على طول الساحل الشامي، والشوكة المغروسة في خاصرة العالم الإسلامي.
وبعد الهزيمة الساحقة للصليبيين في معركة حطين، استقبلت صور موجات متتالية من الفرسان الناجين، والنبلاء الذين فقدوا قلاعهم، والجنود المشتتين الذين وجدوا في صور الملجأ الوحيد المتبقي، ومستودع آملهم، وعمل كونراد دي مونفيراتو على تنظيم الصفوف وتعزيز التحصينات الدفاعية مستغلاً الموقع الجغرافي الفريد للمدينة كجزيرة متصلة بالبر بلسان ضيق، كما تحالف مع أساطيل بيزا وجنوة مما منحه تفوقاً بحرياً مؤقتاً، وجعل من المدينة نقطة ارتكاز للحملة الصليبية الثالثة، حيث تحالفت جيوش أوروبا بقيادة ملك إنجلترا (ريتشارد الأول)، والمعروف بلقب (ريتشارد قلب الأسد) Richard the Lionheart استعدادا لحملة صليبية تهدف لاحتلال بيت المقدس مجددًا.

أما تنظيم فرسان الهيكل، فإن القدر كان يخبئ لهم مفاجأة غير سارة، لم ترد على خواطرهم، ولم يتخيلوا أن يروها حتى في أشد كوابيسهم رعبًا.


إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال