خلف قضبان البديهيات


البديهية Axiom هي حقيقة ذاتية الصحة، يقر العقل بصحتها مباشرة دون برهان لشدة وضوحها، ولا تحتاج إلى إثبات لأنها في حد ذاتها إثبات لاستنتاج آخر.

وهي في علم المنطق قاعدة أولية تنطوي على فهم وتقدير الأمور بشكل فوري ودون الحاجة إلى تمحيص، لأنها تعتمد على المعارف المتوارثة، والتي تلقى قبولاً في المجتمع.

أي أنها ثوابت ومبادئ عقلية أولية تُمكن الأفراد من اتخاذ القرارات، وتقدير الأمور، دون الحاجة إلى دليل مُعقد، أو تفسير؛ لذا لا يمكن للعقل الواعي نكرانها أو تكذيبها، ويُقر بها ويستند إليها في سلسلة استنتاجاته للوصول إلى إثبات ما.

وتختلف البديهية Axiom عن المـــُسلّمة Postulate بكونها حكم تحليلي، وبداية البرهان والتسليم بالأمر دون جدال، وهي سابقة للمُسلّمة التي تُكملها ولا تتنافى معها.

فإذا كانت الشمس تُشع الضوء؛ فهذه قضية بديهية يُسلّم بها العقل بشكل تلقائي دون الحاجة إلى إثبات، وإذا كانت الغيوم مصدر المطر فهذه أيضاً قضية بديهية لا ينكرها العقل وينطلق منها في رحلة إثباتاته التالية.

ولكن، ماذا لو أن هناك مجتمعاً مغلقاً على نفسه، قبيلة تعيش في مكان منعزل تماماً عن العالم، وكل أفراد هذه القبيلة من المكفوفين.

ثم بطريقة أو بأخرى عثر عليهم أحد الرحالة وعاش بينهم فترة من الزمن بدأ خلالها معهم رحلة تعليم من الصفر؛ فلا شك في أن أول شيء يبدأ به هو البديهيات.

علمهم هذا الرحالة أن هناك جرماً يطير في السماء اسمه «الشمس»، وهو جسم سداسي الشكل، أزرق اللون، ينفث بين الحين والآخر الماء لينزل على الأرض في صورة شيء نسميه «المطر».

وأن هناك فقاعات سابحة حول هذا الجسم اسمها «الغيوم» تشع نوراً وحرارة، وهي تلك اللسعات التي تشعرون بها على جلودكم.

هكذا يصبح بديهياً بالنسبة إليهم أن المطر يأتي من الشمس، والحرارة تأتي من الغيوم.

وتتعاقب الأجيال التي تبدأ في تكوين حصيلتها العلمية والمعرفية انطلاقاً من تلك البديهيات.

المطر: ماء بارد يتكون من قطرات تمتزج ببعضها.

بينما الحرارة: ضوء يُظهر شكل الأشياء حولنا، لكننا لا نرى ذلك لأننا فاقدون للبصر.




وهكذا يشرعُ هؤلاء القوم في تعليم أولادهم البديهيات التي تعلموها، وما أضافوا إليها من معارفهم وعلومهم، ويتشكل الوعي العام الذي يمضي في رحلة تقدمه العلمية كلما تقدمت الأجيال وأضاف كل جيل إسهاماته.

فجأة، يولد بينهم شخص ليس كفيفاً، ويبدأ مثل الجميع في تحصيل ميراث العلم الموروث عن أسلافه؛ فيصطدم أول ما يصطدم بالبديهيات، ويبدأ رحلة شك فيها؛ لأنه يرى بعينيه أن الشمس ليست جسماً سداسياً أزرق يخرج منه المطر، والغيوم ليست فقاعات تُشع نوراً وحرارة.

ورغم أنه يرى بعينيه؛ إلا أنه يكذّبها، لأنهم يبرمجون عقله ويقنعونه بأن ما يراه ليس حقيقياً، وأن ما يعتقد كونه حقاً هو باطل؛ لأن البديهية تقول عكس ذلك.

وبما أنها قضية عقلية لا تحتاج إلى برهان، ويُقر العقل بصحتها دون استدلال مُسبق، إذن لو أن هناك خللاً فيكون في عقله، وفي عينيه التي تخدعه.




إن التكرار الذي حدث على مدار أجيال يجعل هذا الشخص يبدو في نظر الجميع مجنوناً؛ لأنه يقول خرافات ويشكك في بديهيات لا يمكن نكرانها.

إذ كيف يقول هذا المجنون بأن الشمس مصدر الحرارة، والغيوم مصدر المطر، فيخالف قضية محسومة وبديهية توارثتها الأجيال وآمنت بها؟

لكن هذه الفرضية حدثت في مجتمع كفيف، يفتقر إلى الرؤية والتفكير الحر، ويعتمد في سلسلة براهينه على الاستنباط المعرفي المبني على بديهية خاطئة صدقها وآمن بها فقط لكونها مجموعة من الأفكار الجاهزة التي تكررت على العقل من المهد إلى اللحد.

فالإنسان يُملى عليه منذ نعومة أظفاره وحتى يهرم أن الشمس جسم سداسي أزرق يرسل إلينا المطر، والغيوم فقاعات تشع نوراً وحرارة.

ثم تبدأ البراهين لإثبات ذلك بما لا يمت إلى الفرضية نفسها بصلة.

ألا تشعر بالمطر؟ ألا تحس لسعات الحرارة على جلدك؟

هذا هو الدليل.

هكذا يجد هذا الشخص نفسه غريباً مثل "أليس" في بلاد العجائب، وحيداً في عالم يقبع في أعماق نفق أرنب.

عالم غير منطقي، وغير مقنع.

أما في عالمنا المنظور ثلاثي الأبعاد، فنحن مبصرون، ولا يمكن لفرضية كتلك التي آمن بها هؤلاء القوم أن تُصدق فضلاً عن جعلها بديهية.

نحن نملك عيوناً نرى بها أن الشمس جرم يشع نوراً وحرارة، بينما الغيوم هي التي ينزل منها المطر.

ولكن ماذا لو أن البشر قرروا فجأة تغيير اسم الموز ليصبح برتقال، وتغيير اسم البرتقال ليصبح موز؟

لا شك في أن الجيل المعاصر لهذه الفرضية سوف يستهجنها.

أما الجيل التالي سوف ينقسم على نفسه، البعض حداثياً سيتبع الأسماء الجديدة، والبعض أصولياً سيتمسك بالأسماء القديمة.

ومع كل جيل سوف يتناقص أتباع الأصولية ويتزايد أتباع الحداثة حتى نصل إلى جيل لو أن فرداً منه أطلق الاسم الصحيح على نوع الفاكهة يكون مكانه مستشفى الأمراض العقلية.




لذا فإن خطة تغيير الوعي وصنع بديهيات وزرعها في العقول هي خطة أجيال، ولا يمكن تحقيق نجاحها إلا باستمرارها وتكرارها لبرمجة العقول على مدار تلك الأجيال.

لكن هذا في حكم المستحيل، فمن ذا القادر على تطبيق خطة تستمر لقرون؟

الجميع يهلك ويموت،

ولذلك، كان لا بد أن يقف وراء خطة كهذه رأس لا يموت، رأس خالد في الحياة.

وهذا ما حدث بالفعل؛ حينما أخفوا الشمس.

هل يبدو الأمر كأنه أحجية؟

هل تسأل نفسك: ماذا يريد هذا الرجل بكل هذه الثرثرة؟

حسناً، أريد منك أن تربط حزام الأمان جيداً؛ لأننا على وشك رحلة أعجب من رحلات أليس في بلاد العجائب، وسوف نقفز داخل نفق الأرنب لنرى كم هو بعيد العمق.

حاول أن تتجرد من كل أفكارك المسبقة، ومن كل القناعات التي تعلمتها في حياتك، حرر عقلك واترك له العنان للتفكير بكل حرية بعيداً عن تلك الزنزانة الخانقة التي تُسمى: «البديهيات».

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال